أسامة البحري *
في حوار أجري مع الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو سنة 1976 حول العمل الإجتماعي ، اعتبر ان العمل الاجتماعي هو مراقبة تصحيحية .
فما الذي يقصده ميشال فوكو بالمراقبة من جهة وبالتصحيح من جهة أخرى ؟
يعلم كل مطلع على الحوار أن الفيلسوف الفرنسي يجيب على التساؤلات من خلال أطروحته الكبرى حول المراقبة والضبط الاجتماعي،وكما هو معلوم أن كتاب المراقبة والعقاب الى جانب كتاب تاريخ الجنون وأعمال أخرى هي أحد أهم ما انتجته الفلسفة المعاصرة في قضايا الاجتماعي ، خاصة وأن قوة ميشال فوكو تتمثل في قراءته الجيدة للتاريخ ،والاكثر من ذلك هناك من يصنفه كونه مؤرخ ،وبذلك فلا عجب انه في كتابه المراقبة والعقاب وتاريخ الجنسانية وتاريخ الجنون ، نجد انفسنا نتطرق مع ميشال فوكو لتاريخ الظاهرة المدروسة ,وهذا ما نلاحظه في كتابه المراقبة والعقاب كونه نظر”بالشدة” للانتقال الذي عرفته المراقبة من ماكرو فيزياء السلطة الى ميكرو فيزياء السلطة أي من ساحة الاعدام الى السجن ثم الى الضبط الموجود في كل مكان .
وتركز أطروحة ميشال فوكو على ما سماه بتقنيات الجسد الانضباطي ،اي ان السلطة على الجسد ركزت طيلة العصور التي خلت على محاولة معاقبة كل من لايخضع للنظام ،ولعل مسألة سفينة الحمقى التي عرضها في كتابه تاريخ الجنون المتمثلة في رمي المختلين العقليين في البحر لهو تعبير على أن المجتمع باجهزته هو كان بشكل او اخر يرى في الجسد اللاعاقل تهديدا للنظام العام ،وهو نفسه المثال الذي عرضه في الفصل الاول من كتابه المراقبة والعقاب حول اعدام داميان امام الجميع الذي شكل مسرحا لعرض مالايريده المجتمع .
وستنتقل المراقبة والعقاب عبر العصور حسب فوكو ،لتصبح في عصرنا ذات طابع انساني خاصة وانه حينما عرفت الساحة الفكرية صراعا فكريا حول مسالة حقوق الانسان،جعلت العديد من المسائل تعرض للنقاش كالاعدام والسجن والماساواة بين الجنسين والوظائف الخ .
وهذا ماجعل فوكو يعلن ان المراقبة وضبط الجسد اللاعاقل اخذت تتعقد الى ان اصبحت داخل الوعي المجرد ،فالمجتمع غايته منذ البداية هي ان يخلق ضبطا فعليا كما يسميه فوكو يجعل اللاعقل والجنون عكسه ،بحيث يصبح كل ماهو مجنون داخل المجتمع غير منتمي له ،وهذا ما ناقشه ايضا في عمله تاريخ الجنسانية ففي العصر الحديث اصبحنا نتحدث عن شرطة الملفوظات بحيث اصبحت المراقبة والضبط في كل مكان ،فيكفي ان نقول امام الجميع هذا الشخص يقوم بفعل لااخلاقي حتى يتدخل الكل لاستبعاده .
وبذلك فان تعريف ميشال فوكو للعمل الاجتماعي هو نابع من اطروحة كبرى تعتبر الجسد اللاعاقل هو هم المجتمع ، فاللاعقل هو لايحترم قواعد المجتمع ،ولذلك فانه يهدد تماسكه قدرما يساهم في بنائه ، وهنا تحضر المراقبة التصحيحة التي يقوم بها العمل الاجتماعي ،وهي لاتعني مراقبة للاستبعاد الاجتماعي بالمنطق الذي عرفته عبر التاريخ “رمي المختلين العقلين في البحر / سجن اصحاب الاراء المختلفة / اعدام من يقترف خطأ أخلاقي ” بل مراقبة نافعة وتصحيحية تستعمل اعادة ادماج وتأهيل كل من يخالف قواعد المجتمع الاخلاقية والقانونية .
فصحيح اننا كلنا مجانين وحمقى حسب فوكو ويجب ان لانسمي المختل العقلي بمجنون بل بمريض ، ويجب ان يأخذ حقه في العلاج ،لكنه في نفس الوقت يطرح امامنا موضوعا غاية في الأهمية وهو ان المجتمع لايؤمن بالاختلاف خاصة حينما يهدد عنصر من عناصره هذا التماسك باختلافه ، ولذلك يجب حسب فوكو ان ننشر الوعي عوض ان ننشر دعم الاستبعاد الاجتماعي ، ولهذا فان مفهوم التصحيح حسبه هو مرتبط بالمراقبة ،،فصحيح انها خاصية طبيعية لكل مجتمع “الهوية المغلقة للاجتماع” بينما التصحيح هو عبارة عن قيمة اسمى ومرتبطة بالانسان المثقف وهذا هو حجر زاوية تعريف فوكو ،كونه ربط العمال الاجتماعيون بالمثقفين ،فاذا كان التكوين الطبيعي للمجتمع يعتبر الاخر المختلف غير منتمي للمجتمع ،فمن الذي سيدمج هذا المستبعد سواء مريض عقلي او أطفال القمر او متشوه جسديا او مرضى الفصام او مرتكب جريمة ،وهنا ياتي دور العامل الاجتماعي للتصحيح ويصب هذا التحليل في قولة لروبرت ماكيفر “لكي تكون عاملا اجتماعيا يجب ان تكون عالما اجتماعيا ” ولكي تكون عالما اجتماعيا كما ناقش ذلك دوركهايم في كتابه علم الاجتماع والفلسفة ،يجب ان تكون فيلسوفا ،وهذه هي النقطة التي ناقشها فوكو .
بحيث ان الانسان المثقف حسبه والممارس للفلسفة تميزه مسالة على باقي الناس وهي امتلاكه لتيليسكوب المعرفة ،بحيث ان كل ماهو مجرد وغير مفكر فيه حسب فوكو هو يشكل تهديدا ويجب مساءلته خاصة وانه
يوجد في ميكرو فيزياء المعرفة اي في اللاوعي ويتمثل دور المراقبة التصحيحة في كون العامل الاجتماعي يجب ان يكون مثقفا ومالكا لتيلسيكوب المعرفة ليستطيع تصحيح المسارات التي قد تجعل انسانا يرتكب جريمة او ان تعرض مريض نفسي للوصم او تعرض مسن للابتزاز الخ
فهل يمكن ان نتحدث اذن حسب فوكو عن العمل الاجتماعي كممارسة نبيلة وتصحيحة ام كعلم العصر الحديث ،فاذا كان اوغست كونت في تقسيمه للعلوم قد وضع علم الاجتماع كاهم علم كونه يفسر واقع الانسان ،بكون هذا الاخير يوجد داخل المجتمع والمجتمع يوجد فيه ،فهل يمكننا الحديث اذن عن العمل الاجتماعي كعلم العصر ؟
العودة الى كتاب ميشال فوكو حفريات المعرفة سنجده يرى ان التشكيلية الخطابية للعلم تبتدئ بعتبة الوضعية ، ومن خصائص هذه العتبة أن الخطاب يستقل فيها ويكون في حالة ديناميكية ، وذلك بفعل منظومتها العبارية ، ويجتاز الخطاب هذه العتبة حينما ينتقل إلى عتبة التنظير الإبستيمولوجي وذلك بفعل تكون نماذج نظرية وأعمال نقدية وتمحيصات أيضا حول المعرفة ، وحينما يتشكل هذا الخطاب ، يصبح له شكل إبستيمولوجي لا يحطمه النقد حينها يكون قد وقف على عتبة العلمية ،اي لكي ينتقل الخطاب من العتبة الوضعية الى الوضعية العلمية ،يجب اولا ان يستقل الخطاب المعرفي ،اي ان يصبح له اساس خاص به وهو اشبه بمفهوم المسطح عند زميله جيل دولوز ، فالعتبة الوضعية هي حالة استقرار الخطاب المعرفي وتنظيمه العباري حول مااستقل حوله ،وحينما يستقر هذا الخطاب ينتقل الى عتبة التنظير الابستيمولوجي وهي عتبة انتاج المفاهيم التي لايمكن ان يحطمها النقد لانها تصبح براديغما لها اساس متين وسميك .
وحينما يحدد الأولويات التي ينطلق منها والعناصر التي يستخدمها وبنيات القضايا الصحيحة في نظره ، حينها يمكننا أن نقول عنه أنه اجتاز عتبة الصياغة الصورية .
وتتشكل العتبة الوضعية حسب فوكو بالحالة الاجتماعية التي تؤطرها ،فالطب العقلي حسبه لم يكن نتاج التظير والفلسفة بل كان حول المشاكل الاجتماعية وكل ماقيل حول الحمق وما يثار والاستبعاد الذي عرفه هذا المرض ،مما يجعلنا نفترض ان العمل الاجتماعي راهنيته هي مرتبطة اساسا بالظروف الاجتماعية التي يثار فيها كل اشكال تفكك الروابط الاجتماعية وهو مايشكل هذه العتبة التي يظهر فيها خطاب جديد حول هذا العلم والعتبة التي تلي العتبة الوضعية هي التنظير ،صحيح انه هنالك نقاش حول استفادة العمل الاجتماعي من علم الاجتماع بالخصوص وعلم النفس واليات التدخل ،لكن وكما سلم فوكو ان كل علم يجب ان تكون عتبته الخطابية العبارية والمعرفية قد خلقت واستقرت وهي العتبة الوضعية والتي تدفع ظهور العتبة المقبلة وهي التنظير ،وهو مايعرفه العمل الاجتماعي ايضا اليوم كعلم تدخلي قد يعرف حضوره حين سينتقل لانتاج المفاهيم التدخلية وقواعد خاصة به ،فعتبته الوضعية متمثلة اساسا في الظروف الاجتماعية التي أطرته ليبرز وهو الحديث على زمن اللايقين والتفكك والانتقال للرقمي والانتحار وتفسخ الهوية …
* طالب بمسار التميز العمل الاجتماعي – بني ملال