ملفات طاطا الحارقة.. من المظلمة إلى الإنجاز
إن أول ما يخبرك بأنك على مشارف إقليم طاطا تلك الجبال الجرداء التي شكلت منها عوامل التعرية الريحية والمائية لوحات فنية رائعة، تبعث في النفس شعورا بالفساحة والنقاء بفضل الأفق الممتد، كما أن مؤشرات الحرارة تشرع في الارتفاع بشكل محسوس يفرض عليك أن تبدأ في التأقلم معها دون أن تتعب نفسك في استعمال أي نوع من المكيفات لأنها لا تجدي نفعا.
إقليم طاطا الذي ظل لسنوات تتقاذفه كل من جهة درعة تافيلالت وجهة سوس ماسة وهو ما أغضب منتخبي هذا الإقليم بسبب ما وصفه أحدهم ذات مرة ب(الحكرة) فوجوده في جنوب شرق جهة سوس ماسة يجعله امتدادا طبيعيا للجهة بالرغم من تقاسمه للمجال الصحراوي مع جهة درعة تافيلالت.
ويبدوا أن هذا التجاذب قد انتهى ليتفرغ الإقليم بجماعاته العشرون للبحث عن النموذج التنموي الذي يمكنه أن يحل هذه المعادلة الصعبة المتمثلة في قساوة الطقس وشح الموارد الطبيعية التي تتطلب تدبيرا استثنائيا لهذه النذرة.
القافلة الإعلامية التي حلت بهذا الإقليم كانت فرصة للوقوف عند العديد من المشاهد والاستماع إلى العديد من الشهادات إليكم ملخصا عنها في هذا التعليق المقتضب.
مزيج من الثقافات
من الميزات الإثنوغرافية التي يتميز بها إقليم طاطا الواقع على مشارف الحدود الجزائرية المغربية هذا التنوع في الأجناس والامتزاج بين العنصر العربي والأمازيغي والإفريقي ليشكل فسيفساء بشرية رائعة تظهر من خلال السحنات التي تحمل ملامح الأمازيغ والأفارقة والعرب وهو ما يؤكد أن المغرب ظل عبر قرون ممرا ومستقرا لعدد كبير من الحضارات وملجأ للقبائل التي كانت تجوب الصحراء الكبرى لشمال أفريقيا.
ومن المسلم به أن هذا التنوع قد انعكس بشكل أكثر جمالية على مستوى الأهازيج الشعبية والأطعمة التي تمتح من كل هذه الحساسيات التي سبق ذكرها، وهو ما يحتاج فعلا إلى تثمين من الحفاظ عليه باعتباره تراثيا لاماديا يوثق لتنوع الشعب المغربي وعراقته.
اقتصاد الواحة
يبدوا أن الطبيعة الواحية للإقليم تمنحه فرصة من أجل استلهام أسس الاقتصاد الواحي القائم على تدبير النذرة في الموارد والإمكانيات والعمل على تحقيق مستويات عالية من النجاعة في جميع التدخلات وتحقيق الالتقائية وهو ما تجسده “طاطا بيو” التي تعتبر تجمعا حيويا للتعاونية المتخصصة في المنتوجات المجالية.
فهذا الفضاء الذي تأسست فكرته على حل الإشكالات التي تعاني منها التعاونيات على مستوى تجميع المنتوجات وصناعة العلامة التجارية والتعبئة والترويج انتهاء بالتسويق يعتبر حلا تضامنيا للنهوض بهذه التعاونيات والرفع من رقم معاملاتها السنوي.
سفراء طاطا
لقد سعى القائمون على هذا الفضاء إلى للاستفادة ممن يمكن اعتبارهم بسفراء طاطا فوق العادة المتواجدون في كل المدن المغربية من طنجة إلى الكويرة، والذين يتمثلون في تجار الفواكه الجافة، من خلال توزيع أورقة لعرض المنتوجات المجالية للإقليم وتسويقها من خلال هذه الشبكة الواسعة.
وهو ما يعتبر فكرة عبقرية وسلوكا ينم عن قوة الشعور بالانتماء للأرض لدى أبناء طاطا الذين يوحدهم الارتباط بأصولهم الواحية والتقاليد العريقة في التضامن والتآزر، وبذلك تحقق المنتوجات المجالية الخاصة بالتعاونيات المتواجدة بنفوذ إقليم طاطا الانتشار اللازم وحل معضلة التسويق التي أرقت التعاونيات منذ عقود.
التباكي والإنجاز
يبدوا أن الجيل الجديد من المنتخبين الذي ظهر بطاطا خلال الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة قد تخلى عن خطاب التباكي والمظلمة الذي دأب عليه من سبقهم إلى المجالس بهذا الإقليم حيث كانت أصواتهم تتعالى بمجلس جهة سوس ماسة وبالبرلمان بأن الإقليم الذي يوجد على مشارف واد درعة على الحدود الجزائرية يعيش على وقع التهميش.
وفي مقابل ذلك يلاحظ أن القائمين على الشأن المحلي يبادرون وفي نفس الوقت يطالبون بالمزيد ويترافعون من أجل الرفع من الإمكانيات المالية والبشرية المرصودة لهذا الإقليم الفتي الذي تم إنشائه سنة 1977 .
من حسن حظ هذا الجيل من السياسيين الجدد أن إرادة قوية قد تشكلت لدى السلطات الإقليمية والمحلية بأن وقت الإنجاز قد حل وبأن زمن السياسوية قد انتهى إلى غير رجعة فالساحة لم تعد تقبل المرافعات الجوفاء في المجالس والعناوين العريضة في الجرائد والمواقع بل أصبح من المفروض على الجميع أن يتكلم لغة الإنجاز على أرض الواقع، وأن يدبر الإمكانيات المتاحة بأكبر قدر من النجاعة والفعالية والترشيد.
الصحة الإقليمية
إقليم طاطا وزاكورة وفكيك وغيره من الأقاليم البعيدة عن محور الدار البيضاء الرباط وعن الحواضر الكبرى عانى من نفور الأطر الطبية وعدم رغبتها في الاستقرار في مثل هذه المناطق ودون الدخول في جدل الأسباب فإن المجلس الإقليمي لطاطا عمد إلى تخصيص ميزانية للتعاقد مع أطباء حديثي التخرج من أجل سد هذا الخصاص وهي بادرة سبق وأن تم القيام بها في إقليم تيزنيت ولكن ربما لم تحضى بالنجاح مثل ما تحقق بطاطا.
كما أن المستشفى الإقليمي تم تجهيزه بمعدات ربما لن تجد مثيلا لها في مستشفيات بعض المدن كما أن مركز تصفية الدم الخاص بالقصور الكلوي يعتبر بحق جوهرة المرافق الطبية المتواجدة بالإقليم والذي خفف معاناة فضيعة يتكبدها المصابون بهذا الداء المزمن والذي يفرض عليها الانتقال إلى مدينة أكادير أو تارودانت مرتين كل أسبوع مع ما يتطلبه ذلك من مصاريف مالية وتعب وغيره.
الهمم العالية
عثمان هذا الشخص القادم من خلفية نضالية من أجل حقوق ذوي الهمم العالية وبدعم من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية فقد استطاع أن ينشأ هذا المركز الذي يعنى بالمصاحبة الطبية والرعاية النفسية الاجتماعية لهذه الفئة الهشة اجتماعيا.
فبغلاف مالي يقارب سبعة ملايين و690 ألف درهم تم بناء وتجهيز هذا المركز في ما تبلغ ميزانية التسيير ما قدره 820 ألف درهم، كما تم اقتناء حافلتين، فضلا عن تكوين 35 إطار بشراكة مع المجلس الإقليمي لطاطا في المھن الشبه الطبیة كالترویض الطبي، التخصص النفسي والحركي، و تقویم النطق الذي ساهمت فيه المبادرة بمبلغ مليون و613 ألف درھم، وتهدف ھذه المبادرة إلى توفير الموارد البشرية المؤھلة لمواكبة هذه الفئة و تأطیرھا.
نساء من الهامش
أما السيدة “عزيزة” هذه المرأة الخمسينية ذات الملامح الأمازيغية الأصيلة فهي أمينة سر هذا المركز الذي تم إنشاؤه بدعم من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، حيث اختاروا له اسما مثيرا “الفضاء المتعدد الوظائف لنساء طاطا” وهو هدف نبيل وأفق سام أن يتم الاهتمام بالنساء من أجل منحهن فرصة للاستقلال المادي والقدرة على إعالة أنفسهن وأسرهن.
ويتضمن هذا المركز ورشات للطرز والخياطة وحياكة الصوف والمشغولات اليدوية فضلا عن مركز لمحو الأمية والأبجدية والإدارية وكذا روضة للأطفال تمكن النساء من الحضور لهذه الورشات وفي نفس الوقت فإن الأبناء سيحضون بفرصة للتعلم.
قد يكون العائق الكبير في وجه هؤلاء النسوة هو تسويق منتوجاتهن لكن رغم ذلك يبدوا أنهن مصرات على تحقيق النجاح والبحث عن الحل لكل مشكلة وتحدي الصعاب.
مركز صاعد
يبدو أن هوسنا بالصحراء وبالجنوب قادنا في هذه القافلة حوالي ستين كيلومترا جنوب مدينة طاطا التي تعتبر عاصمة الإقليم، وذلك نحو جماعة تيسينت التي كشف لنا رئيسها في مستهل لقاءه مع القافلة الإعلامية بأنه تم اختيارها ضمن المراكز الصاعدة بالإقليم.
الرئيس الشاب الذي يعتبر من الجيل الجديد من مدبري الشأن المحلي بدا متحمسا، وهو يستعرض الخطوط العريضة لبرنامج عمل الجماعة، والذي يعتبر الشلال العتيق واسطة عقده وأمل الجماعة في تحقيق الجذب السياحي للمنطقة ككل ولعشاق السياحة الصحراوية، إضافة إلى تهيئة السوق الأسبوعي ومشاريع أخرى تتعلق بالبنيات التحتية والماء الصالح للشرب والتطهير الصحي.
مبارك إدعمار الذي ينحدر من عائلة دخلت غمار السياسة منذ عقود أخبرنا أن عدد ساكنة الجماعة لا يتجاوز عشرة ألاف نسمة لكنها من أقدم الجماعات حيث تأسست في ستينيات القرن الماضي.
فهذه الجماعة الواقعة في أقصى الجنوب الشرقي لها تاريخ أقدم بكثير من تاريخا الإداري فهي التي تضم المعلمة التاريخية المعروفة بمنزل الباحث السوسيولوجي الفرنسي ” شارل دوفوكو” الذي ألف عنها كتابا بالرغم من أهدافه الاستعمارية إلا أنه شكل وثيقة مهمة بالنسبة لهذه الجغرافيا المتمردة.
فضلا عن مجموعة من المعالم التاريخية التي ارتبطت بأحداث سياسية وطنية فهي موطن القائد بونعيلات ومسقط رأس رائد الأغنية الغوانية بوجميع وغيرهم كثير.