إن النظر إلى واقع مجتمعنا فيما يسجله كل سنة من ارتفاع عدد حالات الطلاق، يدفعنا إلى طرح تساؤلات عديدة حول الأسباب التي جعلت محاكمنا الأسرية مدكسة بملفات الطلاق. أهو انعدام الحب في مجتمعنا ؟ أهي المشاكل الاقتصادية و الاجتماعية التي تعصف ببيت الزوجية و تدمره ؟ أهي الخيانة ؟ أهو العنف بشتى أشكاله؟ أهو انعدام الصبر و التضحية ؟ أهو عدم الانسجام، عدم تحمل المسؤولية و عدم الاحترام ؟ أم أن مؤسسة الزواج فاشلة كما يقول البعض ؟
ربما الإجابة تحتوي على كل شيء من هاته الاسباب، لكنني لست ممن يؤمنون بأن الزواج مؤسسة فاشلة، لأنني ترعرعت بين زوجين دامت عشرتهما وحبهما اكثر من خمسين عاما.
حسب الأرقام المتوفرة، انتقل مجموع حالات الطلاق بالمغرب من 25852 حالة سنة 2018 إلى 55470 حالة في سنة 2019, و تؤكد المعطيات على أن حوالي %78 من الحالات كانت طلاقا رضائيا، و في سنة 2020 سجلت المحاكم الابتدائية ما يقارب 109229 حالة طلاق. تؤويل الأرقام يختلف من شخص إلى آخر، و قد تبدو ارقاما عادية مقارنة بنسبة النمو الديموغرافي و نسب العزوبة و الزواج في مجتمعنا، لكنها تبقى ارقاما في تصاعد يدل على أن الطلاق ظاهرة اجتماعية تتزايد بشكل بشع، خاصة تلك الانفصالات التي وقعت خلال جائحة كورونا و شملت الكثير من المتزوجين حديثا. ربما لم يستحملوا بعضهم البعض، في أول اختبار لهم للتعايش معا تحت سقف واحد كل يوم، دون أن يبتعد أحدهم عن الآخر ولو للحظات. أتساءل لماذا تزوجوا إذن؟! ناهيك عمن تزوجوا قديما و كشف ما يسترونه و ما يفعلونه و هم خارج بيت الزوجية. فكما قال دوستويفسكي(البدايات للكل، لكن التباث للصادقين).
خلال بحثي حول أسباب الطلاق، لم اصادف دراسة علمية بحثة حول الموضوع، بل هي آراء لمتخصصين في مجالات متعددة. الأسباب تشمل ترسبات الماضي بما فيها من عنف زوجي و قهر و اضطهاد، و تبعات اجتماعية و نفسية ترتبط بكل شخص من الأزواج و عدم قدرتهم على تدبير النزاعات الداخلية. كما هي أسباب تتعلق بالتنشئة الاجتماعية لتجعل رجالا يودون زوجاتهم شبيهات لامهاتهم أو اخواتهم، إضافة إلى اختلاف الطباع و مشاكل الغيرة و اختلاف مفاهيم الزواج و اختلاف التقاليد و البيئة الاجتماعية و مشاكل العنف المتعلق بادمان الكحول و المخدرات، و كذلك الإهمال أو عدم القدرة على تحمل المسؤولية و المشاكل المالية و الاقتصادية. هي كذلك اسباب تتعلق بالصراع من أجل الهيمنة على الآخر، و الأمر هنا لا يقتصر على النساء فقط، بل هناك أزواج يعانون من العنف و الإهمال و الاضطهاد و السيطرة.
إضافة إلى كل هاته الأسباب، هناك أخرى تافهة، مثل الخلاف الناتج عن اختيار اسماء الأولاد أو التفاهم حول الفراش وما غير ذلك. اكثر من هذا هنالك اشياء أخرى تغيرت في مجتمعنا لتجعل من الطلاق ظاهرة متفشية بما فيها تعديلات مدونة الأسرة، حيث أصبح الطلاق ممارسة سهلة للتخلص من المشاكل الأسرية كما أن الوسائل المرتبطة بالصلح أمام القاضي غير كافية لا كما و لا نوعا. اخصائيون اجتماعيون تحدثوا كذلك عن اسباب تتعلق بوضعية المرأة التي تغيرت في مجتمعنا حيث أصبحت فاعلا اجتماعيا و اقتصاديا من خلال تحقيق استقلاليتها و مواجهتها للرجل في شتى مجالات العمل، لتتوفر على علاقات زمالة في العمل و ثقافة جديدة لتدبير أحوال البيت و تحقيق استقلالية مادية تجعلها تستغني عن زوجها عند بروز ابسط الخلافات.
مجتمعنا المعاصر تغير كذلك و تغيرت معه عدة مفاهيم و حتى طريقة تربية الأطفال، لنلتمس انحطاطا في الأخلاق و القيم لتصبح بعض الممارسات و الأقوال شيئا عاديا بعدما كانت من قلة الحياء في ازمنة أخرى. هناك كذلك ظاهرة الزواج المبكر، لنجد أزواجا تزوجوا وهم في بداية شبابهم. مثلهم نسمع عن طلاقهم بعد مرور بضعة أشهر، فالاشياء التي تأتي بسرعة، غالبا ما تنتهي كذلك بسرعة. من الأفضل لهم…فماذا سينجبون كاطفال هم بالأساس كازواج لم تكتمل بعد تربيتهم و لا يملكون من التجارب ما يجعلهم يصمدون أمام أزمات الحياة و اختباراتها.
تطور الانترنت و مواقع التواصل الاجتماعي و غيرها من المنصات الإلكترونية للتعارف، غير كذلك مفهوم العلاقات الاجتماعية حيث أصبح كل شيء مباحا و متاحا، في كل لحظة ومن أي مكان… العالم المعاصر تغيرت فيه المفاهيم و أصبح الجنس متاحا و سلعة و الحب تحديا… نحب و نفترق بكل سهولة و يحاول كل واحد أن يحافظ على دائرة راحته… لا نحاول ترميم الأشياء بل هي ترمى و نبحث عن أخرى….انه عالم جديد معاصر يتسم بالفردية ( individualisme) و حب النفس و الذات بعيدا عن أي شيء يمكن أن يقلق راحة الشخص ولو على حساب حب أقرب الناس.
في مقالي هذا، لست هنا بصدد مناقشة الأسباب فهي متعددة و جوانبها كثيرة و أعمق مما يمكن أن نتصور، و الطلاق قد يكون حلا لكل الأطراف حين تستحيل العلاقة الزوجية ، رغم أن الأطفال إن وجدوا هم من يدفعون الضريبة. ما اريد ان اتطرق اليه هو ابعد من الاسباب، لأطرح السؤال؛ لماذا نتزوج ؟! …
في مجتمعنا، بكل مايحمله من ثقل الاعراف و التقاليد، و تركيبته الدينية و الاجتماعية، اغلب الناس يتزوجون لأن الزواج في نظرهم ضرورة اجتماعيةو دينية، أو كدليل على النجاح الاجتماعي. هناك من تزوجوا ليكون لهم أبناء أو هروبا من الوحدة، أو نزولا تحت رغبة الآباء ليكون لهم أحفاد أو لأن اصغرهم في العائلة قد تزوج و له أبناء و عليه أن يفعل مثله حتى لا يخرج من إطار اجتماعي أريد له ان يكون كذلك، و هناك أيضا من زوجوه اباءه، طلبا منه أو جبرا، دون أي يختار أو أن يعرف زوجته قبل الزواج.
أنا لست ضد الزواج، الله خلق لنا من أنفسنا أزواجا لنسكن إليها، و جعل بيننا مودة و رحمة. الله خلق الرجل للمرأة و خلق المرأة للرجل، لكن مجتمعنا يفرقهم. مجتمعنا مجتمع مريض، يحارب الحب و يمنح اعتبارات عليا لأشياء هامشية ( عائلة الزوج و الزوجة و اصلهما كانهما كان لهما الاختيار في نسبهما، راتب الزوج، وظيفته، نسبه، التقاليد و الاعراف، كلام الناس، كلام العائلة…) حتى أن هناك من يجرؤ على أن يسأل الزوج عن دخله و ممتلكاته و كأننا في سوق البيع و الشراء.
كيف للانسان أن يتزوج من لا يحبه ؟ ماذا عن ارواحنا التي تحتاج إلى أرواح تكملها ؟ … غريب أمر من يتحدثون عن الحب بعد الزواج. يمكن أن يحدث ذلك، لكن كما قال جبران خليل جبران : (ما أجهل الناس الذين يتوهمون أن المحبة تتولد بالمعاشرة الطويلة و المرافقة المستمرة. إن المحبة الحقيقية هي ابنة التفاهم الروحي، و إن لم يتم هذا التفاهم الروحي بلحظة واحدة، لا يتم بعام و لا بجيل كامل).
صحيح أن الحب وحده لا يكفي لاستمرار علاقة الزواج، و أن هناك أشياء أخرى لها دورها ( الوفاء، الاحترام، الاخلاق، الثقة المتبادلة، الاحساس بالمسؤولية، الانتباه و العناية بالاخر، الجانب المادي، التفاهم و الانسجام، الرغبة في فهم الآخر، المساندة، التضحية، الصدق….)، لكن إن فكرنا بعمق، فهي كلها أشياء تصب في جانب الحب.
كثيرون هم من تزوجوا بعقلهم (رجالا و نساءا) و كأنهم يدخلون في صفقات تجارية، و يتصرفون مع طرفهم الثاني وفق استراتيجيات و يزنون كل الأشياء وفق ما سيربحون وما سيخسرون، لكنهم في النهاية يخسرون كل شيء، حتى انفسهم، لأن الحياة أساسا، لا تخضع لمنطق مثل هذا.
ما اريد قوله هنا، هو أن الطلاق حق كل متزوج تستحيل مسيرته مع الطرف الآخر، كيفما كانت الاسباب، لكن لا نتزوج عبثا، لا نتزوج لان علينا أن نتزوج و لننجب اطفالا لا ذنب لهم، لا نتزوج لان ابن او ابنة الجيران او فردا من العائلة أصغر سنا تزوج و انجب اطفالا، لا نتزوج لان الجميع فعل ذلك، نتزوج لأننا وجدنا نصفنا الثاني و استحالت حياتنا دون وجوده و نريد أن ننهي حياتنا معه لانه يجعلنا نسير إلى الأمام و نرى الحياة بشكل افضل و لانه يكملنا، نتزوج لأن روحنا ترتاح للطرف الآخر و تكتمل معه، و وجوده في حياتنا يجعلنا افضل مما نحن عليه و يضمن لنا استقرارا نفسيا و روحيا و يجعلنا سعداء. ..نتزوج لان كل الظروف المناسبة، كيفما كانت من شخص إلى اخر، قد اكتملت.
ماوددت قوله هو أنه عندما تتوفر ثقافة الحب، التي يتوفر معها الاحترام، العناية، اللطف، الاخلاق، المبادئ و القيم، المودة، الرحمة، الصبر، التضحية، التسامح، النضج الفكري، الثورة على الاعراف و التقاليد الفارغة و التافهة، الرغبة في فهم الآخر و اسعاده و مساندته ليصبح أفضل مما عليه…..حينما نرى سعادتنا في سعادة الآخر و حينما يصبح اكتمالنا مستحيلا دون الآخر، بعيدا عن زواج المصالح و العائلة، هنا يصبح الطلاق حلا بعيدا كل البعد لنحاول و نحاول و نحاول لترميم الاشياء…لنسير معا في طريق و حلم، رسم بقلبين ماكان ليكتمل بقلب دون الآخر.
أمين رشيد: طالب باحث في سلك الدكتوراه