…هي التفاهة تملأ كل الجوانب، لتصبح نظاما، منتوجا مرغوبا و ثقافة تسيطر على العالم.
إن كانت التفاهة في اللغة تعني نقصا في الأصالة أو الإبداع أو القيمة، أو الخلو من الأهمية و الشأن و عدم الجدوى، فهذا هو ما نعانيه فعلا في عالمنا المعاصر.
في كتابه، نظام التفاهة، يرى الفيلسوف آلان دونو، أن دور المثقف، الحكيم و العالم، لم يعد موجودا في عالم اليوم، و أصبح المجال فارغا ليملأه الخبير و الاختصاصي. فالأوساط التي كان من المفترض أن تنتج مثقفين و مفكرين ذو حس نقدي، كالجامعات مثلا، أصبحت تلاءم برامجها لاحتياجات سوق الشغل و الاقتصاد الراسمالي (employabilité)، لتنتج خبراءا، و متمكنين من التقنيات و المعارف، لكنهم فارغين فكريا و ايديولوجيا. و هكذا يتم الإبتعاد عن عملية المعرفة، التي ترسخ التفكير العميق و التأمل في الاشياء، و تمنح الحس النقدي و القدرة على التعامل مع اشكاليات و تساؤلات فلسفية عميقة.
هذا ينطبق حتى على المجال السياسي، حين يتحدث الاستاذ رشيد عشعاشي عن ما يسمى بما فوف السياسة او (métapolotique ) كمجال فكري و فلسفي تنبثق منه افكار لتترسخ في الواقع، و هذا المجال جد فارغ، و فسح المجال لتيارات فارغة ايديولوجيا، أو انغلاق فكري لا يغير الواقع و لا يمنح القدرة على خلق تصورات جديدة.
هي التفاهة سيطرت على كل شيء، و كبنية متكاملة، فقد تسربت إلى كل المجالات. يرى الكاتب أن الراسمال الثقافي هو كذلك حول إلى اشياء تافهة. فاليوم، على سبيل المثال، يفرض على فنانين العمل و فقا لأهداف السوق، اكثر مما له علاقة بالابداع و الفن. التأمل في الساحة الفنية كاف لمعرفة من يتم اقصاؤهم حينما لا يلبون متطلبات السوق من التفاهة و السطحية و كيف أصبح الاغبياء مشاهيرا. حتى في الأحاديث اليومية، التفاهة و السطحية مهيمنتان، فكل كلام او تعبير نتج عن تفكير و نظرة مغايرة و عميقة للاشياء يتم تحقيره، لتجد الآخر يقول: (واو عميق).
أشار الكاتب كذلك في كتابه الى ان الاقتصاد تغير و أصبح الاقتصاد المادي متحكما في الاقتصاد الوجداني، لتحيا المجتمعات تحت سلطة الطغيان الراسمالي مما خلق هوسا ماليا و اقتصادا جشعا، لأن الفكر الاقتصادي تجرد من بعده الإنساني و الفلسفي و أصبحت السياسة في خدمة الاقتصاد و الراسمالية.
هي ازمنة رديئة نمر بها، أصبح فيها للتافهين مقام و سلطة و تحولوا إلى رموز.
صحيح أن العالم عرف تطورات تكنولوجية و علمية لكن ما النتيجة ؟ ماذا نريد أن نكون ؟ الي أن يقود التافهون هذا العالم ؟… فالتفاهة التي تحيط بنا ما هي إلا جزء هامشي لظاهرة اكثر عمقا و تجدرا، لأن مجتمعات اليوم و الانظمة التي تسيرها لا يتوفق فيها إلا ذوي الذكاء المحدود و المستوى المتواضع و البسيط (médiocre). كما يقول الفيلسوف في كتابه: “ضع كتبك المعقدة جانبًا، فكتب المحاسبة صارت الآن أكثر فائدة. لا تكن فخورًا، ولا روحانيًا، ولا حتى مرتاحًا، لأن هذا يمكن أن يظهرك بمظهر المغرور. خفف من شغفك لأنه مخيف. وقبل كل شيء لا تقدّم لنا فكرة جيدة من فضلك، فآلة إتلاف الورق ملأى بها سلفًا. هذه النظرة الثاقبة في عينيك مقلقة: وسع حدقتي مقلتيك وأرخ شفتيك ـ ينبغي أن تكون للمرء أفكار رخوة وينبغي أن يظهر ذلك. عندما تتحدث عن نفسك، قلل من إحساسك بذاتك إلى شيء لا معنى له: يجب أن نكون قادرين على تصنيفك. لقد تغير الزمان، فلم يعد هناك اقتحام للباستيل، ولا شيء يقارن بحريق الرايخستاغ، كما أن البارجة الروسية “أورورا” لم تطلق طلقة واحدة باتجاه اليابان. ومع ذلك فقد تم شن الهجوم بنجاح: لقد تبوأ التافهون موقع السلطة”.
للاطاحة بنظام التفاهة، يرى الفيلسوف الكندي، أن ذلك لن يكون الا بكيفية جماعية، و تغيرات راديكالية تقصي ما يمكن أن يضر بالصالح العام.
هكذا يتبين أن محاربة التفاهة و تكريس فلسفة الفكر الحر و التأمل العميق، و القدرة على طرح تساؤلات عميقة و محاربة الانغلاق الفكري الايديولوجي هو دور الإنسانية جمعاء، كافراد و نخب ثقافية وجب عليها أن تتمرد على الأفكار السائدة و الايديولوجيات الجاهزة و التي تسجن الفكر. هو كذلك دور الاسر في تربية ابناءها من أجل بناء تفكير مستقل متمرد عل النمطية و امتلاك وعي كامل بخطورة التفاهة ، و دور الانظمة السياسية في خدمة المجتمع و الصالح العام و المدارس و الجامعات من أجل ترسيخ حس النقد و القدرة على التفكير العميق.
رشيد أمين: باحث في علوم التسيير
تعليق واحد
تحليل في الصميم !! نحن فعلا في زمن التفاهة العميقة