باحث في علم الاجتماع: عبد الجليل لفغاني.
تقديم:
شهد المغرب تحولات كبرى في مساره نحو تحقيق تنمية شاملة ومستدامة، مستندًا إلى رؤية ملكية واضحة تجعل المواطن محور السياسات الاجتماعية. هذه الرؤية تعزز مفهوم الدولة الاجتماعية كإطار لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما أكد عليه الملك محمد السادس في عدة مناسبات، ولا سيما في خطاب العرش وخطاب افتتاح السنة التشريعية. وقد شدد جلالته على أهمية تجديد النموذج التنموي الوطني، وتطوير السياسات الاجتماعية لضمان الإدماج والتماسك المجتمعي. ويعد مشروع تعميم الحماية الاجتماعية أحد أبرز الأوراش الوطنية، إذ يستهدف تحسين مستوى عيش المواطنين، من خلال تعميم التغطية الصحية، توسيع الاستفادة من أنظمة التقاعد، توفير الحماية ضد فقدان الشغل، وضمان ولوج الفئات الهشة إلى الخدمات الأساسية. و يجسد هذا المشروع التزام الدولة الراسخ بتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، عبر تبني مقاربة تدريجية تضمن استفادة عادلة ومستدامة لجميع الفئات. وفي هذا السياق، يحتل العمل الاجتماعي مكانة أساسية في هذا التوجه، لما له من دور في ترسيخ قيم التضامن والتكافل، وتعزيز الروابط الاجتماعية. كما يسهم في دعم الفئات الأكثر هشاشة، من نساء، وأطفال، وشباب، وأشخاص في وضعية إعاقة، بهدف تمكينهم من الاندماج الاقتصادي والمهني. ومن هذا المنطلق، يبرز دعم المبادرات التعاونية والاقتصاد الاجتماعي كخيار استراتيجي لتعزيز التنمية المحلية، ومساعدة الأفراد على تحقيق الاستقلالية و الرفاهية.
وشكل النموذج التنموي الجديد إطارًا مرجعيًا للتحول الذي يشهده المغرب، حيث يهدف إلى إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني، وتعزيز العدالة الاجتماعية والمجالية. ويرتكز هذا النموذج على مجموعة من الأولويات، من بينها: إصلاح المنظومة التربوية، دعم تنافسية الاقتصاد، تعزيز الحماية الاجتماعية، تمكين الشباب اقتصاديًا، تعزيز الاستدامة البيئية، وإرساء حكامة جيدة تقوم على إشراك مختلف الفاعلين في التنمية. ولبلوغ هذه الأهداف، يظل التنسيق بين الدولة، القطاع الخاص، المجتمع المدني، والهيئات المنتخبة، عنصرًا أساسيًا لضمان تنفيذ الإصلاحات بشكل فعال ومستدام.
ويرتبط نجاح هذه الأوراش الكبرى بمدى القدرة على تعبئة الموارد المالية، تحسين الحكامة، تعزيز الشفافية، وتفعيل آليات التقييم والتتبع، بما يضمن تحقيق النتائج المرجوة. وتظل الرؤية الملكية الرامية إلى تعميم الحماية الاجتماعية وإرساء أسس الدولة الاجتماعية، خطوة استراتيجية تهدف إلى بناء مجتمع يقوم على التضامن والتماسك، حيث يشكل المواطن محور العملية التنموية. وفي هذا الإطار، تمثل هذه الندوة الوطنية فرصة لفتح نقاش جماعي، والتفكير المشترك في السبل الكفيلة بتنزيل هذه الرؤية الطموحة على أرض الواقع، من أجل بناء مستقبل أكثر عدالة وازدهارًا للجميع.”
إن الدولة الاجتماعية، في مفهومها الحديث، تقوم على ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لجميع المواطنين، من خلال توفير الولوج العادل إلى التعليم، والصحة، والسكن، وفرص الشغل، بما يسهم في تكريس تكافؤ الفرص، والتقليص من الفوارق الاجتماعية والمجالية. ويتماشى هذا التوجه مع الالتزامات الدستورية والدولية للمغرب في مجالي حقوق الإنسان والتنمية المستدامة.
وإن “مفهوم الدولة الاجتماعية” لم يكن مصطلحًا رسميًا يُطلق على المغرب في تاريخ معين، لكنه أصبح متداولًا بشكل واضح بعد إطلاق ورش الحماية الاجتماعية الشاملة سنة 2021، في سياق تنزيل النموذج التنموي الجديد مع السيد شكيب بنموسى وأعضائه المكونين للنمموذج وفق رؤية ملكية سامية. هذا التعبير أصبح أكثر بروزًا في الخطابات الرسمية، خاصة في خطب الملك محمد السادس، في خطاب العرش (31 يوليوز 2021)، حيث “أكد الملك على ضرورة بناء دولة اجتماعية، ترتكز على التضامن، تقليص الفوارق الاجتماعية، والعدالة الاجتماعية”. والذي افتتح في الدورة التشريعية (8 أكتوبر 2021)، شدد الملك على أن تعميم الحماية الاجتماعية هو المدخل الأساسي لتحقيق الدولة الاجتماعية. ومنه يمكن طرح أسئلة توضحيه للقارئ. ما معنى الدولة الاجتماعية؟
هي الدولة التي تضع العدالة الاجتماعية وكرامة المواطن في صلب سياساتها، والتي تعمل على:
ضمان الحقوق الأساسية (الصحة، التعليم، السكن، الشغل، التقاعد)، حماية الفئات الهشة وتقليص الفوارق الاجتماعية ضمان تكافؤ الفرص والارتقاء الاجتماعي. ومفهوم الدولة الاجتماعية أخدتها الدولة المغربية من عند فرنسا كدولة اجتماعية بامتياز في اروبا وما جاءت به مشاريع وتقسيمات حكومية لإنجاح مشروعها الحماية الاجتماعية.
وأما علاقة النموذج التنموي بالرؤية الملكية هي في الاساس بناء دولة اجتماعية مبنية على الحماية الاجتماعية لكل الفئات المجتمع بدون استثناء الا الاغنياء لأن لهم مقدار كافي للعيش والتمتع الرفاه. اذن يمكن طرح سؤال توضيحي: ماهو النموذج التنموي الجديد؟
يُعد النموذج التنموي الجديد في المغرب خارطة طريق استراتيجية تهدف إلى تحقيق تنمية شاملة ومستدامة بحلول عام 2035. ويرتكز هذا النموذج على أربعة محاور رئيسية:
1/اقتصاد متنوع وتنافسي:
تعزيز التنوع الاقتصادي: تطوير قطاعات متعددة لخلق نسيج اقتصادي متنوع وقادر على الابتكار.
تحفيز الاستثمار والابتكار: تشجيع الاستثمارات وتعزيز ثقافة الابتكار لزيادة التنافسية.
دعم المقاولات الصغيرة والمتوسطة: توفير الدعم والتمويل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة لتعزيز دورها في الاقتصاد.
2/رأسمال بشري معزز ومستعد للمستقبل:
تعليم ذو جودة للجميع: ضمان تعليم شامل وذي جودة، مع التركيز على تكوين وتحفيز المدرسين وتحديث المناهج التعليمية.
تطوير التعليم العالي والتكوين المهني: تحسين أداء الجامعات ومؤسسات التكوين المهني، وتعزيز البحث العلمي.
نظام صحي فعال: تعميم الولوج إلى التغطية الصحية، والاستثمار في الموارد البشرية الصحية لضمان خدمات ذات جودة.
3/إدماج الجميع وضمان تكافؤ الفرص:
تعزيز الحماية الاجتماعية: توسيع نطاق الحماية الاجتماعية لتشمل جميع الفئات، وتقليص الفوارق الاجتماعية.
تمكين المرأة والشباب: رفع نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل إلى 45%، وتمكين الشباب من الولوج إلى الفرص الاقتصادية.
محاربة الإقصاء الاجتماعي: تنفيذ سياسات تهدف إلى دمج الفئات المهمشة وضمان تكافؤ الفرص للجميع.
4/مجالات ترابية مستدامة:
تعزيز الجهوية المتقدمة: منح الجهات صلاحيات أوسع لتحديد وتنفيذ سياساتها التنموية بما يتناسب مع احتياجاتها.
تقليص الفوارق المجالية: تطوير البنية التحتية والخدمات في المناطق القروية والنائية لتقليل الفوارق بين المناطق.
التنمية المستدامة: تشجيع المشاريع الصديقة للبيئة وتعزيز الاقتصاد الأخضر لضمان استدامة الموارد.
لضمان تنفيذ هذه المحاور، يقترح النموذج التنموي الجديد خمس رافعات أساسية:
1/التحول الرقمي: استغلال التكنولوجيا الرقمية لتسريع التنمية وتحسين الخدمات.
2/إدارة فعالة: تطوير جهاز إداري مؤهل وفعال قادر على تنفيذ السياسات بكفاءة.
3/تمويل مستدام: تأمين الموارد المالية الضرورية لتمويل المشاريع التنموية.
4/مشاركة مغاربة العالم: الاستفادة من خبرات وكفاءات المغاربة المقيمين بالخارج.
5/تعزيز التعاون الدولي: تعبئة علاقات التعاون مع الشركاء الأجانب على أساس مبدأ الربح المتبادل.
ويهدف هذا النموذج إلى مضاعفة الناتج الداخلي الخام للفرد، وضمان امتلاك 90% من التلاميذ للتعلمات الأساسية، وتقليص نسبة الشغل في القطاع غير المهيكل إلى 20%، ورفع نسبة رضا المواطنين عن الإدارة والخدمات العمومية إلى أكثر من 80% بحلول عام 2035.
ويُعتبر هذا النموذج بمثابة ميثاق وطني للتنمية، يتطلب التزامًا جماعيًا من جميع الفاعلين في المجتمع المغربي لتحقيق الأهداف المنشودة.
ختاما يمكن القول أن هدف الرؤية الملكية وتعميم الحماية الاجتماعية في المغرب، يتمحور على تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية، وتقليص الفوارق الاجتماعية، وضمان كرامة المواطنين. لسد كل حاجياتهم الأساسية وتوفير تغطية اجتماعية شاملة لجميع المغاربة. و لهذا هذا الورش كخطوة مهمة نحو بناء “دولة اجتماعية”، حيث يكون المواطن في قلب السياسات العمومية، ويُعتمد على آليات الحماية الاجتماعية لضمان الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.